الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ (أهل الكتاب) هم: اليهود والنّصارى بفرقهم المختلفة. وتوسّع الحنفيّة فقالوا: إنّ أهل الكتاب هم: كلّ من يؤمن بنبيٍّ ويقرّ بكتابٍ، ويشمل اليهود والنّصارى، ومن آمن بزبور داود، وصحف إبراهيم وشيثٍ. وذلك لأنّهم يعتقدون ديناً سماويّاً منزّلاً بكتابٍ. واستدلّ الجمهور بقوله تعالى: {أَنْ تَقولوا إنّما أُنْزِل الكتابُ على طائفتين من قَبْلِنا} قالوا: ولأنّ تلك الصّحف كانت مواعظ وأمثالاً لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على أحكامٍ. والسّامرة من اليهود، وإن كانوا يخالفونهم في أكثر الأحكام. واختلف الفقهاء في الصّابئة، فذهب أبو حنيفة إلى أنّهم من أهل الكتاب من اليهود أو النّصارى. وفي قولٍ لأحمد، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة: أنّهم جنس من النّصارى. والمذهب عند الشّافعيّ، وهو ما صحّحه ابن قدامة من الحنابلة: أنّهم إن وافقوا اليهود والنّصارى في أصول دينهم، من تصديق الرّسل والإيمان بالكتب كانوا منهم، وإن خالفوهم في أصول دينهم لم يكونوا منهم، وكان حكمهم حكم عبدة الأوثان. أمّا المجوس، فقد اتّفق الفقهاء على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، وإن كانوا يعاملون معاملتهم في قبول الجزية فقط. ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو ثورٍ، فاعتبرهم من أهل الكتاب في كلّ أحكامهم. واستدلّ الجمهور بحديث: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب...» فإنّه يدلّ على أنّهم غيرهم،و لو كانوا من أهل الكتاب لما توقّف عمر في أخذ الجزية منهم حتّى روي له الحديث المذكور.
أ - الكفّار: 2 - الكفّار ثلاثة أقسامٍ: قسم أهل كتابٍ، وقد سبق بيانهم، وقسم لهم شبهة كتابٍ، وهم المجوس، وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتابٍ، وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان وغيرهم. وعلى ذلك فأهل الكتاب من الكفّار. فالكفّار أعمّ من أهل الكتاب، لأنّه يشمل أهل الكتاب وغيرهم. ب - أهل الذّمّة: 3 - أهل الذّمّة هم: المعاهدون من اليهود والنّصارى وغيرهم ممّن يقيم في دار الإسلام. ويقرّون على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام الدّنيويّة. فلا تلازم بين أهل الذّمّة وأهل الكتاب، فقد يكون ذمّيّاً غير كتابيٍّ، وقد يكون كتابيّاً غير ذمّيٍّ، وهم من كان في غير دار الإسلام من اليهود والنّصارى.
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) إذا قوبلوا بالمجوس. فالمجوسيّة شرّ، وأمّا اليهوديّة إذا قوبلت بالنّصرانيّة فاختلفت آراء الفقهاء والمفسّرين على الاتّجاهات التّالية: الاتّجاه الأوّل: أنّه لا تفاوت بين هاتين الفرقتين. وهذا هو المتبادر من أقوال أصحاب التّفاسير والفقهاء، الّذين تكلّموا في هذه المسألة ممّن رتّبوا أحكاماً فقهيّةً كثيرةً على اليهود والنّصارى دون أي تفرقةٍ بينهما، وعلى حدٍّ سواءٍ، مثل: جواز المناكحة فيما بينهم، كأهل المذاهب فيما بين المسلمين، وجواز شهادة بعضهم على بعضٍ، وجواز أكل ذبيحتهم، وحلّ نكاح نسائهم للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام الفقهيّة، لأنّهم أهل ملّةٍ واحدةٍ وإن اختلفت نحلهم، ولأنّه يجمعهم اعتقاد الشّرك والإنكار لنبوّة سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. الاتّجاه الثّاني: أنّ النّصرانيّة شرّ من اليهوديّة. وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة، منهم ابن نجيمٍ وصاحب الدّرر وابن عابدين، وإليه ذهب بعض المفسّرين، وفرّعوا على هذا الفرق بقولهم: يلزم على هذا كون الولد المتولّد من يهوديّةٍ ونصرانيٍّ أو عكسه تبعاً لليهوديّ لا النّصرانيّ. وفائدته خفّة العقوبة في الآخرة، حيث إنّ في الآخرة يكون النّصرانيّ أشدّ عذاباً، لأنّ نزاع النّصارى في الإلهيّات، ونزاع اليهود في النّبوّات. وكذا في الدّنيا، لما ذكره الولوالجيّ من كتاب الأضحيّة أنّه: يكره الأكل من طعام المجوسيّ والنّصرانيّ، لأنّ المجوسيّ يطبخ المنخنقة والموقوذة والمتردّية، والنّصرانيّ لا ذبيحة له، وإنّما يأكل ذبيحة المسلم أو يخنقها، ولا بأس بطعام اليهوديّ، لأنّه لا يأكل إلاّ من ذبيحة اليهوديّ أو المسلم، فعلم أنّ النّصرانيّ شرّ من اليهوديّ في أحكام الدّنيا أيضاً. والاتّجاه الثّالث: ما ذكره في الذّخيرة، منقولاً عن الخلاصة أيضاً، وهو قول لبعض المفسّرين: أنّ كفر اليهود أغلظ من كفر النّصارى، لأنّهم يجحدون نبوّة نبيّنا عليه السلام ونبوّة عيسى عليه السلام، وكفر النّصارى أخفّ لأنّهم يجحدون نبوّة نبيٍّ واحدٍ، ولأنّ اليهود أشدّ جميع النّاس عداوةً للمؤمنين، وأصلبهم في ذلك، وأمّا النّصارى فهم ألين عريكةً من اليهود، وأقرب إلى المسلمين منهم.
5 - يجوز لإمام المسلمين أو نائبه أن يبرم عقد الذّمّة مع أهل الكتاب، على الخلاف السّابق في المراد بهم، واختلف في غيرهم من الكفّار، ودليل الاتّفاق على جواز عقد الذّمّة لأهل الكتاب قوله تعالى: {قاتِلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليومِ الآخر ولا يُحَرِّمُون ما حَرَّم اللّهُ ورسولُهُ ولا يَدِينُونَ دينَ الحقِّ من الّذين أُوتوا الكتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَة عن يَدٍ وهم صَاغِرون}. ويترتّب على العقد أن يلتزموا أحكام الإمام، والمراد بالتزام الأحكام: قبول ما يحكم به عليهم من أداء حقٍّ أو ترك محرّمٍ، وأن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والمراد بالإعطاء: التزامه والإجابة إلى بذله، لا حقيقة الإعطاء ولا جريان الأحكام فعلاً، وبالعقد تعصم دماؤهم وأموالهم، لأنّ عقد الذّمّة كالخلف عن الإسلام في إفادة العصمة. وقال المالكيّة والشّافعيّة: إذا طلب أهل الكتاب عقد الذّمّة، وكان فيه مصلحة للمسلمين، وجب على الإمام إجابتهم إليه. ولتفصيل أحكام عقد الذّمّة، وما ينعقد به، ومقدار الجزية، وعلى من تفرض، وبم تسقط، وما ينتقض به عقد الذّمّة يرجع إلى مصطلح (أهل الذّمّة) (وجزية).
6 - قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب، لقول اللّه تعالى: {وطعامُ الّذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم} يعني ذبائحهم. قال ابن عبّاسٍ: طعامهم ذبائحهم، وكذلك قال مجاهد وقتادة، وروي معناه عن ابن مسعودٍ. وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضاً، قال ذلك عطاء واللّيث والشّافعيّ وأصحاب الرّأي، ولا نعلم أحداً ثبت عنه تحريم صيد أهل الكتاب. ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب. ولا فرق بين الحربيّ والذّمّيّ في إباحة ذبيحة الكتابيّ منهم، وتحريم ذبيحة من سواه. وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال: لا بأس بها. وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم، منهم مجاهد والثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ وأصحاب الرّأي، ولا فرق بين الكتابيّ العربيّ وغيرهم، لعموم الآية فيهم. فإن كان أحد أبوي الكتابيّ ممّن لا تحلّ ذبيحته، والآخر ممّن تحلّ ذبيحته، قال الحنابلة: لا يحلّ صيده ولا ذبيحته. وقال الشّافعيّ: إن كان الأب غير كتابيٍّ لا تحلّ، وإن كان الأب كتابيّاً ففيه قولان: أحدهما: تباح، وهو قول مالكٍ وأبي ثورٍ. والثّاني: لا تباح، لأنّه وجد ما يقتضي التّحريم والإباحة، فغلب ما يقتضي التّحريم. وقال أبو حنيفة: تباح ذبيحته بكلّ حالٍ لعموم النّصّ، ولأنّه كتابيّ يقرّ على دينه، فتحلّ ذبيحته، كما لو كان ابن كتابيّين. وأمّا إن كان ابن وثنيّين أو مجوسيّين (وهو من أهل الكتاب) فمقتضى مذهب الأئمّة الثّلاثة تحريمه، ومقتضى مذهب أبي حنيفة حلّه، لأنّ الاعتبار بدين الذّابح لا بدين أبيه، بدليل أنّ الاعتبار في قبول الجزية بذلك، ولعموم النّصّ والقياس وأمّا ذبح الكتابيّ لما يملكه المسلم، فقد اختلف فقهاء المالكيّة في إباحة ذلك أو منعه على قولين، وجعل ابن عرفة الكراهة قولاً ثالثاً، والرّاجح من تلك الأقوال القول بالكراهة. أمّا غير المالكيّة فلم نعثر لهم على نصٍّ في ذلك، وإنّما أطلقوا القول في حلّ ذبيحة الكتابيّ كما سبق. ولم يفصّلوا كما فصّل المالكيّة. والظّاهر من عباراتهم الحلّ.
7 - فقهاء المذاهب متّفقون على جواز نكاح المسلم للكتابيّة للآية السّابقة {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وروي عن أحمد تحريم نكاح نساء نصارى بني تغلب. والصّحيح عنه: أنّهم كغيرهم من أهل الكتاب. وعن ابن عبّاسٍ أنّه خصّ الجواز بنساء أهل العهد دون أهل الحرب. والجمهور على أنّه لا فرق بين الحربيّة وغيرها. وانظر للتّفصيل مصطلح (نكاحٍ).
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة، وهو أحد قولين عند الحنابلة: إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها. وصرّح القرافيّ المالكيّ بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة وغيرها محمول على الطّهارة. ومذهب الشّافعيّة، والرّواية الأخرى عند الحنابلة: أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب، إلاّ أن يتيقّن طهارتها فلا كراهة، وقد سبق تفصيل الأحكام في مصطلح (آنيةٍ)
9 - دية الكتابيّ نصف دية المسلم عند مالكٍ وأحمد، والمرأة منهم على النّصف من ذلك، وعند الشّافعيّة دية الكتابيّ ثلث دية المسلم، ودية المرأة نصف ذلك، وعند الحنفيّة ديته كدية المسلم، وراجع مصطلح: (ديةٍ).
10 - قال اللّه تعالى: {قاتِلوا الّذينَ لا يؤمنون باللّه ولا باليومِ الآخِر ولا يُحَرِّمُونَ ما حرَّم اللّه ورسولُهُ ولا يَدِينون دينَ الحَقِّ مِنَ الّذين أُوتوا الكتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صاغرون}. أمر اللّه تعالى بمقاتلة جميع الكفّار لإجماعهم على الكفر، وخصّ أهل الكتاب بالذّكر لتعاظم مسئوليّتهم، لما أوتوا من كتبٍ سماويّةٍ، ولكونهم عالمين بالتّوحيد والرّسل والشّرائع والملل، وخصوصاً ذكر محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وملّته وأمّته، فلمّا أنكروه تأكّدت عليهم الحجّة، وعظمت منهم الجريمة، فنبّه على محلّهم، ثمّ جعل للقتال غايةً، وهي إعطاء الجزية بدلاً من القتل. ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجزية تؤخذ من اليهود والنّصارى إذا طلبوا الكفّ عن القتال، لكنّ الخلاف في غيرهم على تفصيلٍ ينظر في (أهل الحرب، وأهل الذّمّة، وجزيةٍ). وقال الحنابلة: إنّ قتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم، وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الرّوم، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يقاتلون على دينٍ. وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأمّ خلّادٍ: «إنّ ابنك له أجر شهيدين، قالت: ولم ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لأنّه قتله أهل الكتاب».
11 - ذهب الحنفيّة، والحنابلة في الصّحيح من المذهب، والشّافعيّة ما عدا ابن المنذر، وابن حبيبٍ من المالكيّة، وهو رواية عن الإمام مالكٍ إلى: جواز الاستعانة بأهل الكتاب في القتال عند الحاجة. لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: استعان في غزوة حنينٍ سنة ثمانٍ بصفوان بن أميّة وهو مشرك». وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يشترط أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم، فإن كانوا غير مأمونين لم تجز الاستعانة بهم، لأنّنا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف، فالكافر أولى. كما شرط الإمام البغويّ وآخرون شرطاً آخر، وهو: أن يكثر المسلمون، بحيث لو خان المستعان بهم، وانضمّوا إلى الّذين يغزونهم، أمكنهم مقاومتهم جميعاً. وشرط الماورديّ: أن يخالفوا معتقد العدوّ، كاليهود والنّصارى. ويرى المالكيّة ما عدا ابن حبيبٍ، وجماعةً من أهل العلم، منهم ابن المنذر والجوزجانيّ: أنّه لا يجوز الاستعانة بمشركٍ، لقوله عليه الصلاة والسلام «فارجع فلن أستعين بمشركٍ». ولا بأس أن يكونوا في غير المقاتلة، بل في خدمات الجيش.ولتفصيل ذلك (ر: جهاد).
12 - إن كان أهل الكتاب أهل ذمّةٍ في دار الإسلام، فتجري عليهم أحكام المسلمين في حقوق الآدميّين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات، ويتركون وما يدينون فيما يتعلّق بعقائدهم وعباداتهم بشروطٍ. وتفصيل ذلك في مصطلح (أهل الذّمّة).
13 - يشترك أهل الكتاب والمشركون في أحكامٍ منها: أ - أنّه يمنع المشركون وأهل الكتاب من دخول الحرم، ولو دخل المشرك الحرم متستّراً ومات، نبش قبره، وأخرجت عظامه، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز. فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحلّ ليسمع ما يقول. وأمّا جزيرة العرب، فقال مالك والشّافعيّ: يخرج من هذه المواضع من كان على غير دين الإسلام، ولا يمنعون من التّردّد مسافرين، ويضرب لهم أجل للخروج خلال ثلاثة أيّامٍ، كما ضرب عمر رضي الله عنه حين أجلاهم. وفيما يعتبر من جزيرة العرب وما لا يعتبر، وأحكام دخول الكفّار إليها ينظر (أرض العرب). ب - ومنها أن يمنع أهل الكتاب والمشركون من دخول المساجد كلّها، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله مستدلّاً بالآية {إنَّما المشرِكونَ نَجَسٌ} ويؤيّد ذلك قوله تعالى: {في بيوتٍ أَذِنَ اللّه أنْ تُرْفَعَ} إلخ، ودخول الكفّار فيها يناقض رفعهما. وعند الإمام الشّافعيّ أنّ الآية عامّة في جميع المشركين، خاصّةً بالمسجد الحرام، فلا يمنعون من غير المسجد الحرام. وعند الحنفيّة في دخول المشركين وأهل الكتاب المسجد الحرام روايتان: إحداهما في السّير الكبير بالمنع. والثّانية في الجامع الصّغير بعدم المنع. وعند الحنابلة أنّهم يمنعون من الحرم بكلّ حالٍ. فإذا امتنع أهل الكتاب من دفع الجزية يقاتلون كما يقاتل المشركون، لأنّهم إنّما يعصمون دماءهم بدفع الجزية. فإذا منعوها ساووا المشركين في إهدار دمهم. ج - ومن الأمور المشتركة ألا يحدثوا معبداً في دار الإسلام، وألاّ يدفن أحد منهم في مقابر المسلمين.
14 - لا ولاية لكافرٍ على مسلمٍ، لا ولايةً عامّةً ولا خاصّةً، فلا يكون الكافر إماماً على المسلمين، ولا قاضياً عليهم، ولا شاهداً، ولا ولاية له في زواج مسلمةٍ، ولا حضانة له لمسلمٍ، ولا يكون وليّاً عليه ولا وصيّاً. والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعدوَّكم أولياءَ تُلْقُون إليهم بالمودَّةِ}. والتّولية شقيقة التّولّي، فكانت توليتهم نوعاً من تولّيهم، وقد حكم اللّه تعالى بأنّ من تولّاهم فإنّه منهم، ولا يتمّ الإيمان إلاّ بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً. والولاية إعزاز، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً. والولاية صلة، فلا تجامع معاداة الكفّار. والتّفصيلات يرجع إليها في أبواب النّكاح والشّهادة والقضاء، وفي مصطلح (كفرٍ).
15- والأصل في هذا قول اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتَحِنُوهنّ اللّهُ أعلمُ بإيمانِهِنّ فإنْ عَلِمْتُموهُنَّ مؤمناتٍ فلا تَرْجِعُوهنّ إلى الكفّار لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلِّون لهنّ}، قال المفسّرون في تفسير الآية قوله {فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار} الآية: أي لم يحلّ اللّه مؤمنةً لكافرٍ، ولا نكاح مؤمنٍ لمشركةٍ.
16 - العدل بين الزّوجات - ولو مختلفاتٍ في الدّين - واجب. قال ابن المنذر: أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ القسم بين المسلمة والذّمّيّة سواء، وذلك لأنّ القسم من حقوق الزّوجيّة، فاستوت فيه المسلمة والكتابيّة، كالنّفقة والسّكنى، وهذا عند جميع الفقهاء.
17 - التّعامل مع أهل الكتاب جائز، فقد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه اشترى من يهوديٍّ سلعةً إلى الميسرة» وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنّه اشترى من يهوديٍّ طعاماً إلى أجلٍ ورهنه درعه» ففيه دليل على جواز معاملتهم، وثبت عنه أنّه " زارعهم وساقاهم " وثبت عنه أنّه " أكل من طعامهم " وهناك وقائع كثيرة غير ما ذكر، وهناك تفصيلات في مشاركتهم يرجع إليها في مواضعها.
1 - أهل المحلّة في اللّغة: القوم ينزلون بموضع ما يعمرونه بالإقامة به، ويجمع أهل على أهلين، وربّما قيل: أهالي المحلّة. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ.
أ - العاقلة: 2- العاقلة هم: قبيلة الشّخص وعشيرته وإن بعدوا. وفي المصباح: دافع الدّية عاقل، والجمع عاقلة، وسمّيت الدّية عقلاً تسميةً بالمصدر، لأنّ الإبل كانت تعقل بفناء وليّ القتيل، ثمّ كثر الاستعمال حتّى أطلق العقل على الدّية، إبلاً كانت أو نقوداً. وأهل المحلّة قد تكون بينهم قرابة وقد لا تكون. ب - القبيلة: القبيلة: من القبيل الّذي يطلق على الجماعة، ثلاثةً فصاعداً من قومٍ شتّى، والقبيلة لغةً يراد بها: بنو أبٍ واحدٍ. وأهل المحلّة قد لا يكونون من أبٍ واحدٍ. ج - أهل الخطّة: يراد بالخطّة موضع ما خطّه الإمام ووضّحه ليسكنه القوم. د - أهل السّكّة: السّكّة والشّارع: ما يكون بين البيوت من فراغٍ تمرّ به المشاة والدّوابّ وغيرها.
3 - لأهل المحلّة أحكام تختلف تبعاً لما يضاف إليها. فإمام أهل المحلّة يكون أولى من غيره إذا كان ممّن تصحّ إمامته، وإن كان غيره أفضل منه قراءةً أو علماً عند جمهور الفقهاء. وذلك لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما أتى أرضاً له عندها مسجد يصلّي فيه مولًى له، فصلّى ابن عمر رضي الله عنهما معهم، فسألوه أن يؤمّهم فأبى، وقال: صاحب المسجد أحقّ. وأذان أهل المحلّة في مسجدهم يغني المصلّين عن الأذان، إذا كان بحيث يسمعهم عند جمهور الفقهاء، وهو قديم مذهب الشّافعيّ. وفي جديد المذهب: يندب الأذان للمصلّي وإن سمع أذان أهل المحلّة. وفي مسألة اشتراك أهل المحلّة بالقسامة والدّية إذا وجد فيها قتيل لا يعرف قاتله - وهناك لوث - جمهور الفقهاء على أنّ الّذي يقسم هو المدّعي خمسين يميناً، بأنّ أهل المحلّة أو بعضهم قَتَلَه ولا بَيّنة له، لقوله صلى الله عليه وسلم «أتحلفون خمسين يميناً منكم». فإن لم يحلفوا حلف المدّعي عليهم (أهل المحلّة) خمسين يميناً، لقوله صلى الله عليه وسلم في قصّة عبد اللّه بن سهلٍ: «أتحلفون خمسين يميناً فتستحقّون صاحبكم، قالوا. كيف نأخذ أقوال قومٍ كفّارٍ؟ قال: فعقله النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عنده». ويرى الحنفيّة أنّ أهل المحلّة الّتي وجد القتيل فيها هم الّذين يشتركون أوّلاً بالقسامة، ثمّ يغرمون الدّية، وذلك لحديث عبد اللّه بن سهلٍ قال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «تبرئكم يهود بخمسين..» الحديث. وذكر الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب: أنّ القسامة كانت من أحكام الجاهليّة، «فقرّرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قتيلٍ من الأنصار وجد في حيٍّ ليهودٍ، فألزم الرّسول صلى الله عليه وسلم اليهود الدّية والقسامة». (ر: قسامة - دية).
1 - الأهل: أهل البيت، والأصل فيه القرابة، وقد أطلق على الأتباع. وأهل الرّجل: أخصّ النّاس به، وأهل الرّجل: عشيرته وذوو قرباه. وأهل المذهب: من يدين به. والنّسب: القرابة، وهو الاشتراك من جهة أحد الأبوين، وقيل هو في الآباء خاصّةً، أي: الاشتراك من جهة الأب فقط. وعلى ذلك فأهل النّسب لغةً: هم الأقارب من جهة الأبوين، وقيل من جهة الأب فقط. والفقهاء يعتبرون النّسب ما كان من جهة الأب فقط.
2 - يتّفق الفقهاء على أنّ النّسب هو ما كان من جهة الأب فقط، ولذلك لا يختلف الحكم عندهم، إلاّ أنّ التّعبير بلفظ (أهل النّسب) لم يرد إلاّ عند الحنفيّة، فقد قالوا: من أوصى لأهل نسبه فالوصيّة لمن ينتسب إليه من جهة الأب، لأنّ النّسب إلى الآباء. وعند الشّافعيّة والحنابلة لو قال: وقفت على من ينتسب إليّ، أو قال: وقفت على أولادي المنتسبين إليّ، فإنّ الوقف يكون على من ينتسب إليه من جهة الأب، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات، لأنّهم لا ينسبون إليه بل إلى آبائهم، لقوله تعالى: {ادْعوهم لآبائهم}. ويذكر الشّافعيّة: أنّ الواقف لو كان امرأةً دخل أولاد بناتها، لأنّ ذكر الانتساب في حقّها لبيان الواقع لا للإخراج، فالعبرة فيها بالنّسبة اللّغويّة لا الشّرعيّة، ويكون كلام الفقهاء محمولاً على وقف الرّجل. ويظهر أنّ الحكم عند المالكيّة كبقيّة المذاهب، فقد قالوا: إنّ نسب الولد إنّما هو لأبيه لا لأمّه. ولم يصرّحوا في أغلب كتبهم بتعبيرٍ مماثلٍ لما ورد عند بقيّة الفقهاء، إلاّ أنّه ورد في الرّهونيّ: من قال: حبس على ولدي وأنسابهم، ففي دخول ولد البنات في تحبيس جدّهم للأمّ في المذهب قولان، قيل: إنّهم لا يدخلون إلاّ أن يخصّوا بلفظ الدّخول، وقيل: إنّهم يدخلون.
3 - جاء ذكر أهل النّسب عند الحنفيّة في باب الوصيّة، وشبيهه عند الفقهاء في بابي الوصيّة والوقف (ر: وصيّة - وقف).
1 - أصل الإهلال: رفع الصّوت عند رؤية الهلال، ثمّ كثر استعماله حتّى قيل لكلّ رافعٍ صوته: مهلّ ومستهلّ، ومن معانيه النّظر إلى الهلال، وظهور الهلال، ورفع الصّوت بالتّلبية. ويستعمله الفقهاء بالمعاني السّابقة، وبمعنى: ذكر اسمٍ معظّمٍ عند الذّبح.
2 - كثيراً ما يأتي الاستهلال بمعنى الإهلال أي: رفع الصّوت، غير أنّ من الفقهاء من أطلق استهلال الصّبيّ على: كلّ ما يدلّ على حياة المولود، سواء كان رفع صوتٍ أو حركة عضوٍ بعد الولادة.
3 - طلب رؤية هلال رمضان ليلة الثّلاثين من شعبان محلّ خلافٍ بين الفقهاء، بعضهم يقول: يستحبّ للنّاس ترائي الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان وتطلّبه، ليحتاطوا بذلك لصيامهم، وليسلموا من الاختلاف، وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أحصوا هلال شعبان لرمضان». والبعض يرى أنّ التماس هلال رمضان يجب على الكفاية، لأنّه يتوصّل به إلى الفرض. ولا يثبت هلال سائر الشّهور غير هلال رمضان إلاّ بشهادة رجلين، بهذا قال العلماء كافّةً إلاّ أبا ثورٍ، فحكي عنه أنّه يقبل في هلال شوّالٍ عدل واحد كهلال رمضان. أمّا هلال رمضان ففيه خلاف: فبعض الفقهاء يشترط عدلين، والبعض يكتفي بواحدٍ. وأكثر الفقهاء على أنّ من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصّوم، وتجب عليه الكفّارة لو جامع فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وقال أبو حنيفة: يلزمه الصّوم، ولكن إن جامع فيه فلا كفّارة وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثورٍ وإسحاق بن راهويه: لا يلزمه الصّوم. ومن رأى هلال شوّالٍ وحده لزمه الفطر كذلك عند أغلب الفقهاء، للحديث السّابق، وقال مالك واللّيث وأحمد: لا يجوز له الأكل فيه. وظهور الهلال في النّهار يعتدّ به عند بعض الفقهاء للّيلة التّالية، ويفرّق آخرون بين ظهوره قبل الزّوال فيكون للّيلة الماضية، وبعده فيكون للّيلة التّالية. وظهور الهلال في بلدٍ يوجب الصّيام على أهلها، أمّا غير أهل بلد الرّؤية ففي وجوب الصّوم عليهم خلاف بين الفقهاء. ولهم في ذلك تفصيلات موطنها مصطلح: (الصّوم). 4 - والإهلال بالنّسك بمعنى الإحرام، وهو إمّا أن يكون بحجٍّ أو عمرةٍ أو بهما، ويفصّل الفقهاء أحكامه في الحجّ عند الكلام عن التّمتّع، والإفراد، والقران، وفي الإحرام من الميقات بالحجّ أو العمرة أو بهما. كما يكون الإهلال بمعنى التّلبية، ورفع الصّوت بها. وينظر مصطلح (إحرامٍ) (ج 2 ص 128). 5 - والإهلال بالذّبح يجب أن يكون باسم اللّه. فإن أهلّ بالذّبح لغير اللّه، وذلك بأن يذكر عليه اسم غير اللّه سبحانه، كأن يقول: باسم المسيح أو العذراء مثلاً، فلا يحلّ أكل المذبوح. وهذا في الجملة، ولهذه المسألة تفصيلات يذكرها الفقهاء في الصّيد والذّبائح والأضحيّة، وقد أفرد ابن نجيمٍ رسالةً لهذه المسألة.
6 - بالإضافة إلى المواطن السّابقة، يتكلّم الفقهاء عن إهلال المولود في الصّلاة عليه، وفي التّسمية، وفي الإرث، والجناية عليه. وتفصيل ذلك كلّه ذكر في مبحث (استهلالٍ).
1 - الأهليّة مصدر صناعيّ لكلمة (أهلٍ) ومعناها لغةً - كما في أصول البزدويّ -: الصّلاحيّة. ويتّضح تعريف الأهليّة في الاصطلاح من خلال تعريف نوعيها: أهليّة الوجوب، وأهليّة الأداء. فأهليّة الوجوب هي: صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه. وأهليّة الأداء هي: صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً.
أ - التّكليف: 2 - التّكليف معناه في اللّغة: إلزام ما فيه كلفة ومشقّة. وهو في الاصطلاح كذلك، حيث قالوا التّكليف إلزام المخاطب بما فيه كلفة ومشقّة من فعلٍ أو تركٍ. فالأهليّة وصف للمكلّف. ب - الذّمّة: 3 - الذّمّة معناها في اللّغة: العهد والضّمان والأمان. وأمّا في الاصطلاح فإنّها: وصف يصيّر الشّخص به أهلاً للإلزام والالتزام. فالفرق بين الأهليّة والذّمّة: أنّ الأهليّة أثر لوجود الذّمّة.
4 - الأهليّة بمعناها المتقدّم مناطها أي محلّها الإنسان، من حيث الأطوار الّتي يمرّ بها، فإنّه في البداية يكون جنيناً في بطن أمّه، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالجنين، وبعد الولادة إلى سنّ التّمييز يكون طفلاً، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالطّفل، وبعد التّمييز تثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالمميّز إلى أن يصل به الأمر إلى سنّ البلوغ، فتثبت له الأهليّة الكاملة، ما لم يمنع من ذلك مانع، كطروء عارضٍ يمنع ثبوت تلك الأهليّة الكاملة له، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على أقسام الأهليّة وعوارضها.
5 - الأهليّة قسمان: أهليّة وجوبٍ، وأهليّة أداءً. وأهليّة الوجوب قد تكون كاملةً، وقد تكون ناقصةً. وكذا أهليّة الأداء، وبيان ذلك فيما يلي:
6 - سبق أنّ معنى أهليّة الوجوب: صلاحيّة الشّخص لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معاً، أو له، أو عليه. وأهليّة الوجوب تنقسم فروعها وتتعدّد بحسب انقسام الأحكام، فالصّبيّ أهل لبعض الأحكام، وليس بأهلٍ لبعضها أصلاً، وهو أهل لبعضها بواسطة رأي الوليّ، فكانت هذه الأهليّة منقسمةً نظراً إلى أفراد الأحكام، وأصلها واحد، وهو الصّلاح للحكم، فمن كان أهلاً لحكم الوجوب بوجهٍ كان هو أهلاً للوجوب، ومن لا فلا. ومبنى أهليّة الوجوب هذه على الذّمّة، أي أنّ هذه الأهليّة لا تثبت إلاّ بعد وجود ذمّةٍ صالحةٍ، لأنّ الذّمّة هي محلّ الوجوب، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحالٍ، ولهذا اختصّ الإنسان بالوجوب دون سائر الحيوانات الّتي ليست لها ذمّة. وقد أجمع الفقهاء على ثبوت هذه الذّمّة للإنسان منذ ولادته، حتّى يكون صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه، فيثبت له ملك النّكاح بتزويج الوليّ إيّاه، ويجب عليه المهر بعقد الوليّ.
7 - أهليّة الوجوب نوعان: أ - أهليّة الوجوب النّاقصة، وتتمثّل في الجنين في بطن أمّه، باعتباره نفساً مستقلّةً عن أمّه ذا حياةٍ خاصّةٍ، فإنّه صالح لوجوب الحقوق له من وجهٍ كما سيأتي، لا عليه، لأنّ ذمّته لم تكتمل ما دام في بطن أمّه. ب - أهليّة الوجوب الكاملة، وهي تثبت للإنسان منذ ولادته، فإنّه تثبت له أهليّة الوجوب الكاملة، لكمال ذمّته حينئذٍ من كلّ وجهٍ، فيكون بهذا صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه.
8 - سبق أنّ أهليّة الأداء هي: صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتد به شرعاً. وأهليّة الأداء هذه لا توجد عند الشّخص إلاّ إذا بلغ سنّ التّمييز، لقدرته حينئذٍ على فهم الخطاب ولو على سبيل الإجمال، ولقدرته على القيام ببعض الأعباء، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة، وهي الّتي تناسبه ما دام نموّه لم يكتمل جسماً وعقلاً، فإذا اكتمل ببلوغه ورشده ثبتت له أهليّة الأداء الكاملة، فيكون حينئذٍ أهلاً للتّحمّل والأداء، بخلاف غير المميّز، فإنّه لا تثبت له هذه الأهليّة لانتفاء القدرتين عنه.
9 - أهليّة الأداء نوعان: أ - أهليّة أداءً قاصرة، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ قاصرةٍ. ب - أهليّة أداءً كاملة، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ كاملةٍ. والمراد بالقدرة هنا: قدرة الجسم أو العقل، أو هما معاً، لأنّ الأداء - كما قال البزدويّ - يتعلّق بقدرتين: قدرة فهم الخطاب وذلك بالعقل، وقدرة العمل به وهي بالبدن، والإنسان في أوّل أحواله عديم القدرتين، لكن فيه استعداد وصلاحيّة لأن توجد فيه كلّ واحدةٍ من القدرتين شيئاً فشيئاً بخلق اللّه تعالى، إلى أن تبلغ كلّ واحدةٍ منهما درجة الكمال، فقبل بلوغ درجة الكمال كانت كلّ واحدةٍ منهما قاصرةً، كما هو الحال في الصّبيّ المميّز قبل البلوغ، وقد تكون إحداهما قاصرةً، كما في المعتوه بعد البلوغ، فإنّه قاصر العقل مثل الصّبيّ، وإن كان قويّ البدن، ولهذا ألحق بالصّبيّ في الأحكام. فالأهليّة الكاملة: عبارة عن بلوغ القدرتين أوّل درجات الكمال، وهو المراد بالاعتدال في لسان الشّرع. والقاصرة: عبارة عن القدرتين قبل بلوغهما أو بلوغ إحداهما درجة الكمال. ثمّ الشّرع بنى على الأهليّة القاصرة صحّة الأداء، وعلى الكاملة وجوب الأداء وتوجّه الخطاب، لأنّه لا يجوز إلزام الإنسان الأداء في أوّل أحواله، إذ لا قدرة له أصلاً، وإلزام ما لا قدرة له عليه منتفٍ شرعاً وعقلاً، وبعد وجود أصل العقل وأصل قدرة البدن قبل الكمال، ففي إلزام الأداء حرج، لأنّه يحرج الفهم بأدنى عقله، ويثقل عليه الأداء بأدنى قدرة البدن، والحرج منتفٍ أيضاً بقوله تعالى: {وما جَعَلَ عليكم في الدِّينِ من حَرَجٍ} فلم يخاطب شرعاً لأوّل أمره حكمةً، ولأوّل ما يعقل ويقدر رحمةً، إلى أن يعتدل عقله وقدرة بدنه، فيتيسّر عليه الفهم والعمل به. ثمّ وقت الاعتدال يتفاوت في جنس البشر على وجهٍ يتعذّر الوقوف عليه، ولا يمكن إدراكه إلاّ بعد تجربةٍ وتكلّفٍ عظيمٍ، فأقام الشّرع البلوغ الّذي تعتدل لديه العقول في الأغلب مقام اعتدال العقل حقيقةً، تيسيراً على العباد، وصار توهّم وصف الكمال قبل هذا الحدّ، وتوهّم بقاء القصور بعد هذا الحدّ ساقطي الاعتبار، لأنّ السّبب الظّاهر متى أقيم مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً، وأيّد هذا كلّه قوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاثٍ: عن الصّبيّ حتّى يحتلم والمجنون حتّى يفيق، والنّائم حتّى يستيقظ». والمراد بالقلم: الحساب، والحساب إنّما يكون بعد لزوم الأداء، فدلّ على أنّ ذلك لا يثبت إلاّ بالأهليّة الكاملة، وهي اعتدال الحال بالبلوغ عن عقلٍ.
10 - التّصرّفات الّتي تحكمها الأهليّة - سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق الآدميّين - تختلف وتتعدّد أحكامها تبعاً لاختلاف نوع الأهليّة، وتبعاً لاختلاف مراحل النّموّ الّتي يمرّ بها الإنسان الّذي هو مناط تلك الأهليّة، فالأهليّة - كما سبق - إمّا أهليّة وجوبٍ وإمّا أهليّة أداءً، وكلّ واحدةٍ منهما قد تكون ناقصةً وقد تكون كاملةً، ولكلٍّ حكمه. هذا، وللوقوف على تلك الأحكام، لا بدّ أن نتناول تلك المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان، وبيان الأحكام الخاصّة به في كلّ مرحلةٍ من تلك المراحل.
11 - يمرّ الإنسان من حين نشأته بخمس مراحل أساسيّةٍ، وهذه المراحل هي: - 1 - مرحلة ما قبل الولادة، أي حين يكون جنيناً في بطن أمّه. - 2 - مرحلة الطّفولة والصّغر، أي بعد انفصاله عن أمّه، وقبل بلوغه سنّ التّمييز. - 3 - مرحلة التّمييز، أي من حين بلوغه سنّ التّمييز إلى البلوغ. - 4 - مرحلة البلوغ، أي بعد انتقاله من سنّ الصّغر إلى سنّ الكبر. - 5 - مرحلة الرّشد، أي اكتمال العقل. هذا، ولكلّ مرحلةٍ من هذه المراحل أحكام خاصّة نذكرها فيما يلي:
12 - الجنين في اللّغة: مأخوذ من الاجتنان، وهو الخفاء، وهو وصف للولد ما دام في بطن أمّه، والفقهاء في تعريفهم للجنين لا يخرجون عن هذا المعنى، إذ معناه عندهم: وصف للولد ما دام في البطن. والجنين إذا نظر إليه من جهة كونه كالجزء من أمّه يتغذّى بغذائها يحكم بعدم استقلاله، فلا تثبت له ذمّة، وبالتّالي فلا يجب له ولا عليه شيء. وإذا نظر إليه من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ يحكم بثبوت الذّمّة له، وبذلك يكون أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه. ولمّا لم يمكن ترجيح إحدى الجهتين على الأخرى من كلّ وجهٍ، فإنّ الشّرع عامله من جهة كونه جزءاً من أمّه بعدم أهليّته للوجوب عليه، وعامله من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ بكونه أهلاً للوجوب له، وبهذا لا يكون للجنين أهليّة وجوبٍ كاملةً، بل أهليّة وجوبٍ ناقصةً. 13 - وقد اتّفق الفقهاء على إثبات بعض الحقوق للجنين، كحقّه في النّسب، وحقّه في الإرث، وحقّه في الوصيّة، وحقّه في الوقف. فأمّا حقّه في النّسب من أبيه: فإنّه لو تزوّج رجل وأتت امرأته بولدٍ ثبت نسبه منه، إذا توافرت شروط ثبوت النّسب المبيّنة في موضعها. ر: (نسب). وأمّا حقّه في الإرث: فهو ثابت بإجماع الصّحابة كما جاء في الفتاوى الهنديّة وقد اتّفق الفقهاء على استحقاق الحمل للإرث متى قام به سبب استحقاقه وتوافرت فيه شروطه. وكذلك اتّفق الفقهاء على صحّة الوصيّة له. وأمّا حقّه في الوقف: فقد أجاز الحنفيّة والمالكيّة الوقف عليه، قياساً على الوصيّة، ويستحقّه إن استهلّ. ولم يجوّز الشّافعيّة الوقف عليه، لأنّ الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصيّة. وأمّا الحنابلة فلا يصحّ عندهم الوقف على حملٍ أصالةً، كأن يقف داره على ما في بطن هذه المرأة، لأنّه تمليك، والحمل لا يصحّ تمليكه بغير الإرث والوصيّة، أمّا إذا وقف على الحمل تبعاً لمن يصحّ الوقف عليه، كأن يقف على أولاده، أو على أولاد فلانٍ وفيهم حمل، فإنّ الوقف يشمله عندهم. 14 - تبدأ هذه المرحلة من حين انفصال الجنين عن أمّه حيّاً، وتمتدّ إلى سنّ التّمييز، ففي هذه المرحلة تثبت للمولود الذّمّة الكاملة، فيصير أهلاً للوجوب له وعليه، أمّا أهليّته للوجوب له فهي ثابتة حتّى قبل الولادة - كما سبق - فتثبت له بعدها بطريق الأولى، بل صرّح الشّافعيّة: بأنّ له يداً واختصاصاً كالبالغ. وأمّا أهليّته للوجوب عليه ففيها تفصيل يأتي. ووجوب الحقوق الثّابتة على الطّفل في هذه المرحلة، المراد منه: حكمه، وهو الأداء عنه، فكلّ ما يمكن أداؤه عنه يجب عليه، وما لا فلا. وإنّما قيّد الأداء بالممكن، لأنّ الطّفل في هذه المرحلة، وإن كان يجب عليه كافّة الحقوق كالبالغ، إلاّ أنّه يعامل بما يناسبه في هذه المرحلة، لضعف بنيته، ولعدم قدرته على مباشرة الأداء بنفسه، فيؤدّي عنه وليّه ما أمكن أداؤه عنه، ولهذا فإنّ العلماء ذكروا تفصيلاً في الحقوق الواجبة عليه، الّتي تؤدّى عنه، سواء أكانت من حقوق اللّه أم حقوق العباد، كما ذكروا أيضاً حكم أقواله وأفعاله. وبيان ذلك فيما يلي: أوّلاً: حقوق العباد: 15 - حقوق العباد أنواع: منها ما يجب أداؤه عن الطّفل لوجوبه عليه، ومنها ما لا يجب عليه ولا يؤدّى عنه. فحقوق العباد الواجبة والّتي تؤدّى عنه هي: أ - ما كان المقصود منه المال ويحتمل النّيابة، فإنّه يؤدّي عنه، لوجوبه عليه كالغرم والعوض. ب - ما كان صلةً شبيهةً بالمؤن كنفقة القريب، أو كان صلةً شبيهةً بالأعواض كنفقة الزّوجة، فإنّه يؤدّى عنه. وأمّا حقوق العباد الّتي لا تجب عليه لا تجب عليه ولا تؤدّى عنه فهي: أ - الصّلة الشّبيهة بالأجزية كتحمّل الدّية مع العاقلة، فلا تجب عليه. ب - العقوبات كالقصاص، أو الأجزية الشّبيهة بها كالحرمان من الميراث، فلا تجب عليه. ثانياً: حقوق اللّه تعالى: 16 - هذه الحقوق أيضاً منها ما يجب على الطّفل، ومنها ما لا يجب. فالحقوق الّتي هي مئونة محضة كالعشر والخراج تجب عليه، وتؤدّى عنه، لأنّ المقصود منها المال، فتثبت في ذمّته، ويمكن أداؤه عنه. وأمّا العبادات فلا تجب عليه، سواء أكانت بدنيّةً أم ماليّةً. أمّا البدنيّة كالصّلاة والصّوم والحجّ والجهاد وغيرها، فإنّها لا تجب عليه لعجزه عن الفهم وضعف بدنه. وأمّا الماليّة، فإن كانت زكاة فطرٍ، فإنّها تجب في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ولا تجب عليه عند محمّدٍ وزفر من الحنفيّة. وإن كانت زكاة مالٍ، فإنّها تجب في ماله عند جمهور الفقهاء، لأنّها ليست عبادةً خالصةً بل فيها معنى المئونة، أوجبها اللّه تعالى على الأغنياء حقّاً للمحتاجين، فتصحّ فيها النّيابة كما في زكاة الفطر، ولا تجب عليه عند فقهاء الحنفيّة، لأنّها عندهم عبادة خالصة، وتحتاج إلى النّيّة، ولا تصحّ فيها النّيابة. وأمّا إن كانت حقوق اللّه عقوباتٍ كالحدود، فإنّها لا تلزمه ولا تجب عليه، كما لم تلزمه العقوبات الّتي هي حقوق العباد كالقصاص، لأنّ العقوبة إنّما وضعت جزاءً للتّقصير، وهو لا يوصف به. ثالثاً: أقواله وأفعاله: 17 - أقوال الصّبيّ وأفعاله غير معتبرةٍ، ولا يترتّب عليها حكم، لأنّه ما دام لم يميّز فلا اعتداد بأقواله وأفعاله.
18 - التّمييز في اللّغة مأخوذ من: مزته ميزاً، من باب باع، وهو: عزل الشّيء وفصله من غيره. ويكون في المشتبهات والمختلطات، ومعنى تميّز الشّيء: انفصاله عن غيره، ومن هنا فإنّ الفقهاء يقولون: سنّ التّمييز، ومرادهم بذلك: تلك السّنّ الّتي إذا انتهى إليها عرف مضارّه ومنافعه، وكأنّه مأخوذ من ميّزت الأشياء: إذا فرّقتها بعد المعرفة بها، وبعض النّاس يقولون: التّمييز قوّة في الدّماغ يستنبط بها المعاني. وهذه المرحلة تبدأ ببلوغ الصّبيّ سبع سنين، وهو سنّ التّمييز كما حدّده جمهور الفقهاء، وتنتهي بالبلوغ، فتشمل المراهق وهو الّذي قارب البلوغ. ففي هذه المرحلة يصبح عند الصّبيّ مقدار من الإدراك والوعي يسمح له بمباشرة بعض التّصرّفات، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة، لأنّ نموّه البدنيّ والعقليّ لم يكتملا بعد، وبعد اكتمالهما تثبت له أهليّة الأداء الكاملة، لأنّ أهليّة الأداء الكاملة لا تثبت إلاّ باكتمال النّموّ البدنيّ والنّموّ العقليّ، فمن لم يكتمل نموّه البدنيّ والعقليّ معاً، أو لم يكتمل فيه نموّ أحدهما فأهليّة الأداء فيه تكون قاصرةً. فالمعتوه كالصّبيّ، لعدم اكتمال العقل فيه، وإن كان كاملاً من النّاحية البدنيّة، بخلاف أهليّة الوجوب، فإنّها تثبت كاملةً منذ الولادة، فالطّفل أهل للوجوب له وعليه، كما سبق. وللتّمييز أثره في التّصرّفات، فالصّبيّ المميّز يجوز له بأهليّته القاصرة مباشرة بعض التّصرّفات وتصحّ منه، لأنّ الثّابت مع الأهليّة القاصرة صحّة الأداء، ويمنع من مباشرة بعض التّصرّفات الأخرى، وخاصّةً تلك الّتي يعود ضررها عليه، فلا تصحّ منه. ومن التّصرّفات أيضاً ما يمتنع على الصّبيّ المميّز أن يباشرها بنفسه، بل لا بدّ فيها من إذن الوليّ. وفيما يلي ما قاله الفقهاء في ذلك على سبيل الإجمال، أمّا التّفصيل ففي مصطلح (تمييزٍ). تصرّفات الصّبيّ المميّز: 19 - التّصرّفات الّتي يباشرها الصّبيّ المميّز، إمّا أن تكون في حقوق اللّه تعالى، وفي هذه الحالة إمّا: أن تكون تلك الحقوق عباداتٍ وعقائد، أو حقوقاً ماليّةً، أو عقوباتٍ، وإمّا: أن تكون تلك التّصرّفات في حقوق العباد، وهي إمّا: ماليّة أو غير ماليّةٍ. أ - حقوق اللّه تعالى: 20 - أمّا العبادات البدنيّة كالصّلاة، فلا خلاف بين العلماء في عدم وجوبها عليه إلاّ أنّه يؤمر بأدائها في سنّ السّابعة، ويضرب على تركها في سنّ العاشرة، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه: «مروا صبيانكم بالصّلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرّقوا بينهم في المضاجع». وأمّا العقائد كالإيمان، فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ من الصّبيّ، فيعتبر إيمانه، لأنّه خير محض، وخالف في ذلك الشّافعيّة فقالوا: إنّ إسلامه لا يصحّ حتّى يبلغ، لحديث: «رفع القلم عن ثلاثٍ ومنها عن الصّبيّ حتّى يبلغ...» وأمّا ردّته، فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى عدم صحّة ردّته، لأنّها ضرر محض. وذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة إلى الحكم بصحّة ردّته، وتجري عليه أحكام المرتدّين ما عدا القتل. ونقل في التّتارخانيّة والمنتقى رجوع أبي حنيفة إلى قول أبي يوسف. وأمّا حقوق اللّه سبحانه وتعالى الماليّة كالزّكاة، فإنّها تجب في ماله عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ولا تجب في ماله عند الحنفيّة. وأمّا العقوبات المتعلّقة بحقوق اللّه سبحانه وتعالى كحدّ السّرقة وغيره، فإنّها لا تقام على الصّبيّ، وهذا محلّ اتّفاقٍ عند الفقهاء. ب - حقوق العباد: 21 - أمّا الماليّة منها كضمان المتلفات وأجرة الأجير ونفقة الزّوجة والأقارب ونحو ذلك فإنّها تجب في ماله، لأنّ المقصود منها هو المال، وأداؤه يحتمل النّيابة، فيصحّ للصّبيّ المميّز أداؤه، فإن لم يؤدّه أدّاه وليّه. وأمّا ما كان منها عقوبة القصاص، فإنّه لا يجب عليه عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لأنّ فعل الصّبيّ لا يوصف بالتّقصير، فلا يصلح سبباً للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله، ولكن تجب في فعله الدّية، لأنّها وجبت لعصمة المحلّ، والصّبا لا ينفي عصمة المحلّ، ولأنّ المقصود من وجوبها المال، وأداؤه قابل للنّيابة، ووجوب الدّية في ماله عند الحنفيّة، وعلى عاقلته عند المالكيّة والحنابلة. وخالف الشّافعيّة في ذلك على الأصحّ عندهم، حيث قالوا: إنّ عمد الصّبيّ في الجنايات عمد، فتغلظ عليه الدّية، ويحرم إرث من قتله. 22 - أمّا تصرّفاته الماليّة، ففيها تفصيل على النّحو الآتي: - 1 - تصرّفات نافعة له نفعاً محضاً، وهي الّتي يترتّب عليها دخول شيءٍ في ملكه من غير مقابلٍ، مثل قبول الهبة والصّدقة والوصيّة والوقف، وهذه تصحّ منه، دون توقّفٍ على إجازة الوليّ أو الوصيّ، لأنّها خير على كلّ حالٍ. - 2 - تصرّفات ضارّة بالصّغير ضرراً محضاً، وهي الّتي يترتّب عليها خروج شيءٍ من ملكه من غير مقابلٍ، كالهبة والصّدقة والوقف وسائر التّبرّعات والطّلاق والكفالة بالدّين، وهذه لا تصحّ منه، بل تقع باطلةً، ولا تنعقد، حتّى ولو أجازها الوليّ أو الوصيّ، لأنّهما لا يملكان مباشرتها في حقّ الصّغير فلا يملكان إجازتها. - 3 - تصرّفات دائرة بين النّفع والضّرر بحسب أصل وضعها، كالبيع والإجارة وسائر المعاوضات الماليّة، وهذه يختلف الفقهاء فيها: فعند الحنفيّة يصحّ صدورها منه، باعتبار ما له من أصل الأهليّة، ولاحتمال أنّ فيها نفعاً له، إلاّ أنّها تكون موقوفةً على إجازة الوليّ أو الوصيّ لنقص أهليّته، فإذا أجازها نفذت، وإن لم يجزها بطلت. وعند المالكيّة تقع صحيحةً لكنّها لا تكون لازمةً، ويتوقّف لزومها على إجازة الوليّ أو الوصيّ. وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يصحّ صدورها من الصّبيّ، فإذا وقعت كانت باطلةً لا يترتّب عليها أيّ أثرٍ. 23 - البلوغ عند الفقهاء: قوّة تحدث للشّخص، تنقله من حال الطّفولة إلى حال الرّجولة. وهو يحصل بظهور علامةٍ من علاماته الطّبيعيّة كالاحتلام، وكالحبل والحيض في الأنثى، فإن لم يوجد شيء من هذه العلامات كان البلوغ بالسّنّ. وقد اختلف الفقهاء في تقديره، فقدّره أبو حنيفة بثماني عشرة سنةً للفتى، وسبع عشرة سنةً للفتاة، وقدّره الصّاحبان والشّافعيّ وأحمد بخمس عشرة سنةً، والمشهور عند المالكيّة تقديره بثماني عشرة سنةً لكلٍّ من الذّكر والأنثى. وفي هذه المرحلة، وهي مرحلة البلوغ، يكتمل فيها للإنسان نموّه البدنيّ والعقليّ، فتثبت له أهليّة الأداء الكاملة، فيصير أهلاً لأداء الواجبات وتحمّل التّبعات، ويطالب بأداء كافّة الحقوق الماليّة، وغير الماليّة، سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق العباد. وهذا كلّه إذا اكتمل نموّه العقليّ مع اكتمال نموّه البدنيّ، أمّا إذا وصل إلى سنّ البلوغ ولم يكتمل نموّه العقليّ، بأن بلغ معتوهاً أو سفيهاً، فإنّه تجري عليه أحكام الصّبيّ المميّز، ويستمرّ ثبوت الولاية عليه، خلافاً لأبي حنيفة في السّفيه.
24- الرشد في اللغة: الصلاح وإصابة الصواب. والرشد عند الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة: حسن التصرف في المال، والقدرة على استثماره واستغلاله استغلالاً حسناً. وعند الشافعية: صلاح الدين والصلاح في المال. وهذا الرشد قد يأتي مع البلوغ، وقد يتاخر عنه قليلاً أو كثيراً، تبعاً لتربية الشخص واستعداده وتعقد الحياة الاجتماعية وبساطتها، فإذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته، و ارتفعت الولاية عنه وسلمت إليه أمواله باتفاق الفقهاء، لقوله الله تعالى: {وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أموالَهم}. وإذا بلغ غير الرشيد، وكان عاقلاً كملت أهليته، وارتفعت الولاية عند أبي حنيفة، إلا أنه لا تسلم إليه أمواله، بل تبقى في يد وليه أو وصيه حتى يثنت رشده بالفعل، أو يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغ هذا السن سلمت إليه أمواله، ولو كان مبذراً لا يحسن التصرف، لأن منع المال عنه على سبيل الاحتياط والتأديب، وليس على سبيل الحجر عليه، لأن أبا حنيفة لا يرى الحجر على السفيه، والإنسان بعد بلوغه هذه السن وصلاحيته لأن يكون جداً لا يكون أهلاً للتأديب. وقال المالكية والشافعية والحنابلة، وهو قول عند أبي يوسف ومحمد من الحنفية: إن الشخص إذا بلغ غير رشيد كملت أهليته، ولكن لا ترتفع الولاية عنه، وتبقى أمواله تحت يد وليه أو وصيه حتى يثبت رشده، لقول الله تعالى: {ولا تُؤْتُوا السفهاءَ أموالَكم التي جَعَلَ اللهُ لكم قِياماً، وارْزُقُوهم فيها واكْسُوهم، وقولُوا لهم قولاً معروفاً، وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أَمْوالَهم} فإنه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إليهم إلى السفهاء، وناط دفع المال إليهم بتوافر أمرين: البلوغ والرشد، فلا يجوز أن يدفع المال إليهم بالبلوغ مع عدم الرشد. أما إذا بلغ الشخص رشيداً، ثم طرأ السفه عليه بعد ذلك، فسيأتي الكلام عنه في هذا البحث، بين عوارض الأهلية.
25 - العوارض: جمع عارضٍ أو عارضةٍ، والعارض في اللّغة معناه: السّحاب، ومنه قوله تعالى: {فلمّا رَأوْهُ عارضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هَذا عارضٌ مُمْطِرنا}. وأمّا العوارض في الاصطلاح فمعناها: أحوال تطرأ على الإنسان بعد كمال أهليّة الأداء، فتؤثّر فيها بإزالتها أو نقصانها، أو تغيّر بعض الأحكام بالنّسبة لمن عرضت له من غير تأثيرٍ في أهليّته.
26 - عوارض الأهليّة نوعان: سماويّة ومكتسبة: فالعوارض السّماويّة: هي تلك الأمور الّتي ليس للعبد فيها اختيار، ولهذا تنسب إلى السّماء، لنزولها بالإنسان من غير اختياره وإرادته، وهي: الجنون، والعته، والنّسيان، والنّوم، والإغماء، والمرض، والرّقّ، والحيض، والنّفاس، والموت. والمكتسبة: هي تلك الأمور الّتي كسبها العبد أو ترك إزالتها، وهي إمّا أن تكون منه أو من غيره، فالّتي تكون منه: الجهل، والسّكر، والهزل، والسّفه، والإفلاس، والسّفر، والخطأ، والّذي يكون من غيره الإكراه. وفيما يلي ما يتعلّق بهذه العوارض إجمالاً، مع إحالة التّفصيل إلى العناوين الخاصّة بها.
أوّلاً: الجنون: 27 - الجنون في اللّغة مأخوذ من: أجنّه اللّه فجنّ، فهو مجنون، بالبناء للمفعول. وأمّا عند الأصوليّين فإنّه: اختلال للعقل يمنع من جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل. والجنون يؤثّر في أهليّة الأداء، فهو مسقط للعبادات كالصّلاة والصّوم والحجّ. وفي زكاة مال المجنون خلاف، مع مراعاة الفرق بين الجنون المطبق وغيره. وأمّا المعاملات، فحكمه فيها حكم الصّبيّ غير المميّز، فلا يعتدّ بأقواله لانتفاء تعقّله للمعاني. وأمّا أهليّة الوجوب، فلا يؤثّر فيها الجنون، فإنّ المجنون يرث ويملك لبقاء ذمّته، والمتلفات بسبب أفعاله مضمونة في ماله كالصّبيّ الّذي لم يصل إلى سنّ التّمييز. وتفصيل الأحكام الخاصّة بالجنون تنظر في مصطلح: (جنونٍ). ثانياً: العته: 28 - العته في اللّغة: نقصان العقل من غير جنونٍ أو دهشٍ. وفي الاصطلاح: آفة توجب خللاً في العقل، فيصير صاحبها مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين. والمعتوه في تصرّفاته كالصّبيّ المميّز، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة، إذ لا فرق بينه وبين الصّبيّ كما جاء في التّلويح، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ وهي: أنّ امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخّر عرض الإسلام عليه، كما لا يؤخّر عرضه على وليّ المجنون بخلاف الصّبيّ، والفرق بينهما واضح، فإنّ الصّبا مقدّر بخلاف العته والجنون. والتّفصيل في مصطلح: (عتهٍ). ثالثاً: النّسيان: 29 - النّسيان في اللّغة مشترك بين معنيين: أحدهما: ترك الشّيء على ذهولٍ وغفلةٍ، وهو خلاف التّذكّر. وثانيهما: التّرك عن تعمّدٍ، ومنه قوله تعالى: {ولا تَنْسَوُا الفضلَ بينكم}. وفي الاصطلاح: عدم استحضار صورة الشّيء في الذّهن وقت الحاجة إليه. والنّسيان لا يؤثّر في أهليّة الوجوب، ولا يؤثّر أيضاً في أهليّة الأداء لكمال العقل، ومع ذلك فإنّ النّسيان عذر في حقوق اللّه تعالى في حقّ الإثم وعدمه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان...» وللنّسيان أحكام تفصيلها في مصطلح: (نسيانٍ). رابعاً: النّوم: 30 - النّوم: غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء. وفي الاصطلاح: فتور يعرض مع قيام العقل يوجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختياريّة واستعمال العقل. والنّوم لا ينافي أهليّة الوجوب لعدم إخلاله بالذّمّة، إلاّ أنّه يوجب تأخير توجّه الخطاب بالأداء إلى حال اليقظة، لأنّه في حال النّوم عاجز عن الفهم فلا يناسب أن يتوجّه إليه الخطاب حينئذٍ، فإذا انتبه من النّوم أمكنه الفهم، ولهذا فإنّ النّائم مطالب بقضاء ما فاته من الصّلوات في أثناء نومه، وأمّا عبارات النّائم من الأقارير وغيرها فهي باطلة، ولا يعتدّ بها. وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح: (نومٍ). خامساً: الإغماء: 31 - الإغماء في اللّغة: الخفاء، وفي الاصطلاح: آفة في القلب أو الدّماغ تعطّل القوى المدركة والحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً. وهو ضرب من المرض، ولذا لم يعصم منه النّبيّ عليه الصلاة والسلام. وتأثير الإغماء على المغمى عليه أشدّ من تأثير النّوم على النّائم، ولذا اعتبر فوق النّوم، لأنّ النّوم حالة طبيعيّة كثيرة الوقوع، وسببه شيء لطيف سريع الزّوال، والإغماء على خلافه في ذلك كلّه، ألا ترى أنّ التّنبيه والانتباه من النّوم في غاية السّرعة، وأمّا التّنبيه من الإغماء فغير ممكنٍ. وحكم الإغماء في كونه عارضاً من عوارض الأهليّة حكم النّوم، فلزمه ما لزم النّوم، ولكونه يزيد عنه جعله ناقضاً للوضوء في جميع الأحوال حتّى في الصّلاة. وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح: (إغماءٍ). سادساً: الرّقّ: 32 - الرّقّ في اللّغة بكسر الرّاء: العبوديّة. وأمّا في الشّرع فهو: حجز حكميّ عن الولاية والشّهادة والقضاء وملكيّة المال والتّزوّج وغيرها. هذا والأحكام الخاصّة بالرّقيق يرجع إليها في مصطلح: (رقٍّ). سابعاً: المرض: 33 - المرض في اللّغة: حالة خارجة عن الطّبع ضارّة بالفعل. وفي الاصطلاح: ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ. وهو لا ينافي أهليّة التّصرّفات، أي ثبوته ووجوبه على الإطلاق، سواء أكان من حقوق اللّه تعالى أم من حقوق العباد، لأنّه لا يخلّ بالعقل ولا يمنعه من استعماله، فيصحّ ما تعلّق بعبارته من العقود وغيرها، ولكنّه لمّا كان سبب الموت بترادف الآلام، وأنّه أي الموت عجز خالص، كان المرض من أسباب العجز، فشرعت العبادات معه بقدر المكنة، لئلاّ يلزم تكليف ما ليس في الوسع، فيصلّي قاعداً إن لم يقدر على القيام، ومضطجعاً إن عجز عنه، ويعتبر المرض سبباً للحجر على المريض مرض الموت حفظاً لحقّ الوارث وحقّ الغريم إذا اتّصل به الموت، وذلك لأنّ المرض المميت هو سبب الحجر لا نفس المرض. هذا، وتفصيل الأحكام الخاصّة بالمرض يرجع إليها في مصطلح (مرضٍ) ثامناً: الحيض والنّفاس: 34 - الحيض معناه في اللّغة: السّيلان، ومنه الحوض. وفي الاصطلاح: الدّم الخارج من الرّحم لا لولادةٍ ولا لعلّةٍ. وأمّا النّفاس فمعناه في اللّغة: الولادة. وفي الاصطلاح: الدّم الخارج عقب فراغ الرّحم من الحمل. والحيض والنّفاس لا يؤثّران في أهليّة الوجوب، ولا في أهليّة الأداء، إلاّ أنّهما اعتبرا من العوارض لأنّ الطّهارة منهما شرط لصحّة كلّ عبادةٍ يشترط فيها الطّهارة كالصّلاة مثلاً. وتفصيل الأحكام الخاصّة بالحيض والنّفاس محلّه (حيض، ونفاس). تاسعاً: الموت: 35 - الأحكام المتعلّقة بالموت تتلخّص في أنّ تلك الأحكام إمّا دنيويّة أو أخرويّة، والدّنيويّة من حيث التّكليف حكمها السّقوط إلاّ في حقّ المأتم، أو ما شرع لحاجة نفسه أو لحاجة غيره. والأخرويّة حكمها البقاء، سواء أكانت واجبةً له على الغير، أم للغير عليه، من الحقوق الماليّة والمظالم، أوما يستحقّه من ثوابٍ بواسطة الطّاعات، أو عقابٍ بواسطة المعاصي. هذا، ومحلّ تفصيل هذه الأحكام مصطلح (موتٍ)
36 - العوارض المكتسبة إمّا من الإنسان، وإمّا من غيره كما تقدّم.
أ - الجهل: 37 - معنى الجهل في اللّغة: خلاف العلم. وفي الاصطلاح: عدم العلم ممّن شأنه العلم. والجهل لا يؤثّر في الأهليّة مطلقاً، وله أقسام بعضها يصلح عذراً، وبعضها لا يصلح عذراً. وتفصيل ذلك في مصطلح (جهلٍ) ب - السّكر: 38 - من معاني السّكر: زوال العقل، وهو مأخوذ من أسكره الشّراب: أي أزال عقله. وفي الاصطلاح: حالة تعرض للإنسان من تناول المسكر، يتعطّل معها عقله، فلا يميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة. والسّكر حرام باتّفاق الفقهاء، وخاصّةً إن كان طريقه محرّماً، كأن يتناول المسكر مختاراً عالماً بأنّ ما يشربه يغيّب العقل. وخلاصة ما قاله الفقهاء في السّكر هو: أنّهم لم يجعلوا المسكر مسقطاً للتّكليف ولا مضيّعاً للحقوق، ولا مخفّفاً لمقدار الجنايات الّتي تصدر من السّكران،لأنّه جناية، والجناية لا يصحّ أن يستفيد منها صاحبها. وتفصيل الأحكام الخاصّة بالسّكر محلّها مصطلح: (سكرٍ). ج - الهزل: 39 - الهزل: ضدّ الجدّ، أو هو اللّعب، وهو في اللّغة: مأخوذ من هزل في كلامه هزلاً: إذا مزح. وفي الاصطلاح: ألاّ يراد باللّفظ المعنى الحقيقيّ ولا المجازيّ، بل يراد به غيرهما. والهزل لا ينافي الأهليّة، إلاّ أنّه يؤثّر في بعض الأحكام بالنّسبة للهازل. وتفصيل ذلك في مصطلح: (هزلٍ). د - السّفه: 40 - السّفه معناه في اللّغة: نقص في العقل، وأصله الخفّة. وفي الاصطلاح: خفّة تعتري الإنسان فتبعثه على التّصرّف في ماله بخلاف مقتضى العقل، مع عدم الاختلال في العقل. وإنّما كان السّفه من العوارض المكتسبة، ولم يكن من العوارض السّماويّة، لأنّ السّفيه باختياره يعمل على خلاف مقتضى العقل مع بقاء العقل. والفرق بين السّفه والعته ظاهر، فإنّ المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله وأقواله، بخلاف السّفيه فإنّه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفّة، فيتابع مقتضاها في الأمور الماليّة من غير نظرٍ ورويّةٍ في عواقبها، ليقف على أنّ عواقبها محمودة أو مذمومة. والسّفه لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها، ولا ينافي شيئاً من الأحكام الشّرعيّة، فالسّفيه يتوجّه إليه الخطاب بحقوق اللّه وحقوق العباد، إلاّ أنّ الشّريعة راعت ما فيه المصلحة، فقرّرت أن يمنع السّفيه من حرّيّة التّصرّف في ماله صيانةً له، وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح: (سفهٍ). هـ- السّفر: 41 -السّفر - بفتحتين - معناه في اللّغة: قطع المسافة، ويقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد موضعٍ فوق مسافة العدوى، لأنّ العرب لا يسمّون مسافة العدوى سفراً. وفي الشّرع: الخروج بقصد المسير من محلّ الإقامة إلى موضعٍ بينه وبين ذلك الموضع مسيرة ثلاثة أيّامٍ فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام. على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك. والسّفر لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها، إلاّ أنّهم جعلوه من العوارض، لأنّ الشّارع جعله سبباً للتّخفيف في العبادات، كقصر الصّلاة الرّباعيّة والفطر في الصّوم للمسافر. وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح: (سفرٍ). و-الخطأ: 42 - الخطأ في اللّغة يطلق ويراد به: ما قابل الصّواب، ويطلق ويراد به: ما قابل العمد، وهذا المعنى هو المراد به في عوارض الأهليّة. وفي الاصطلاح: فعل يصدر من الإنسان بلا قصدٍ إليه عند مباشرة أمرٍ مقصودٍ سواه. والخطأ لا ينافي الأهليّة بنوعيها، لأنّ العقل موجود معه، والجناية فيه من جهة عدم التّثبّت، ولذا يؤاخذ به من هذه الجهة، فلا تقدّر العقوبة فيه بقدر الجناية نفسها، وإنّما بقدر عدم التّثبّت الّذي أدّى إلى حصولها. والخطأ يعذر به في حقوق اللّه سبحانه وتعالى إذا اجتهد، كما في مسألة جهة القبلة في الصّلاة، واعتبره الشّارع شبهةً تدرأ العقوبة عن المخطئ، وأمّا حقوق العباد فلا يعتبر الخطأ عذراً فيها، ولذا فإنّ المخطئ يضمن ما ترتّب على خطئه من ضررٍ أو تلفٍ. وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح: (خطأ).
ثانياً: العوارض المكتسبة الّتي من غير الإنسان نفسه 43 - وهي عارض واحد فقط وهو الإكراه: ومعناه في اللّغة: الحمل على الأمر قهراً. وفي الاصطلاح: حمل الغير على ما لا يرضاه من قولٍ أو فعلٍ، ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه. وهو معدم للرّضى لا للاختيار، لأنّ الفعل يصدر عن المكره باختياره، لكنّه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستنداً إلى اختيارٍ آخر، وقد لا يفسده بأن يبقى الفاعل مستقلّاً في قصده. هذا، والإكراه سواء أكان ملجئاً أم غير ملجئٍ كما قال الحنفيّة - أو إكراهاً بحقٍّ أو بغير حقٍّ - كما قال الشّافعيّة - لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لبقاء الذّمّة، ولا يؤثّر في أهليّة الأداء لبقاء العقل والبلوغ، إلاّ أنّهم عدّوه من العوارض، لأنّه يفسد الاختيار، ويجعل المكره - بفتح الرّاء - في بعض صوره آلةً للمكره - بكسر الرّاء - وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح: (إكراهٍ). 1 - الإهمال لغةً: التّرك، وأهمل أمره: لم يحكّمه، وأهملت الأمر: تركته عن عمدٍ أو نسيانٍ، وأهمله إهمالاً: خلّى بينه وبين نفسه، أو تركه ولم يستعمله. ومنه: الكلام المهمل، وهو خلاف المستعمل. ولا يخرج معنى الإهمال في اصطلاح الفقهاء عمّا ورد من معانيه في اللّغة حسبما ذكر. 2 - الإهمال في الأمانات إذا أدّى إلى هلاكها أو ضياعها يوجب الضّمان، سواء أكان أمانةً بقصد الاستحفاظ كالوديعة، أم كان أمانةً ضمن عقدٍ كالمأجور، أم كان بطريق الأمانة بدون عقدٍ ولا قصدٍ، كما لو ألقت الرّيح في دار أحدٍ ثوب جاره. فالعين المودعة - مثلاً - الأصل فيها أن تكون أمانةً في يد الوديع، فإن تلفت من غير تعدٍّ منه ولا إهمالٍ لم يضمن، لأنّ الأمين لا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو الإهمال، لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس على المستعير غير المغلّ ضمان، ولا على المستودع غير المغلّ ضمان». وللتّفصيل ينظر مصطلح: (إعارةٍ، الوديعةٍ). وإهمال الأجير الخاصّ يستوجب الضّمان، أمّا الأجير المشترك فإنّه ضامن مطلقاً عند جمهور الفقهاء على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في مصطلح: (إجارةٍ، وضمانٍ). ومستأجر الطّاحون ونحوها، إن أهملها حتّى سرق بعض أدواتها عليه ضمانه. وإهمال الحاذق من طبيبٍ أو ختانٍ أو معلّمٍ يوجب ضمان ما يحدث بسبب إهماله. فلو سلّم الوليّ الصّبيّ إلى سبّاحٍ ليعلمه السّباحة، فتسلّمه فغرق، وجبت عليه ديته. وتفصيل ذلك في مصطلح: (ديةٍ). وإهمال القاطع الحاذق في القصاص وقطع يد السّارق بتجاوزه ما أمر به، أو القطع في غير محلّ القطع يوجب الضّمان، لأنّه إتلاف نتج عن إهماله ولا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ. وقال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً. والحسم بعد القطع في حدّ السّرقة مستحبّ للمقطوع على الأصحّ، لأنّ الغرض منه المعالجة ودفع الهلاك عنه بنزف الدّم، وهذا عند بعض الفقهاء، ومفاده أنّه غير واجبٍ على الإمام. وقيل: إنّ الحسم من توابع الحدّ، وهو واجب عند الحنفيّة، فيلزم الإمام فعله، وليس له إهماله وتركه، ومستحبّ للإمام عند الشّافعيّة. 3 - من القواعد الفقهيّة قاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله، وهذا لأنّ المهمل لغو، وكلام العاقل يصان عنه، فيجب حمله ما أمكن على أقرب وجهٍ يجعله معمولاً به من حقيقةٍ ممكنةٍ، وإلاّ فمجاز، وذلك لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة، والمجاز فرع عنه وخلف له. واتّفق الأصوليّون على أنّ الحقيقة إذا تعذّرت، أو هجرت يصار إلى المجاز، وتعذّر الحقيقة: إمّا بعدم إمكانها أصلاً، لعدم وجود فردٍ لها من الخارج، كما لو وقف على أولاده، وليس له إلاّ أحفاد، فيصار إلى المجاز - وهو الصّرف إلى الأحفاد - لتعذّر الحقيقة. أو بعدم إمكانها شرعاً: كالوكالة بالخصومة، فإنّ حملها على الحقيقة - وهي التّنازع - محظور شرعاً، قال تعالى: {ولا تَنَازَعُوا}، ولذا تحمل على المجاز، وهو رفع الدّعوى والإقرار والإنكار. وبمثابة التّعذّر ما لو حلف لا يأكل من هذا القدر، أو من هذه الشّجرة، أو هذا البرّ، فإنّ الحقيقة، وهي الأكل من عينها ممكنة لكن بمشقّةٍ، فيصار في الأمثلة الثّلاثة إلى المجاز، وهو الأكل ممّا في القدر، أو من ثمر الشّجرة إن كان، وإلاّ فمن ثمنها، أو ممّا يتّخذ من البرّ في الثّالث. ولو أكل عين الشّجرة مثلاً لم يحنث. ومثل تعذّر الحقيقة هجرها، إذ المهجور شرعاً أو عرفاً كالمتعذّر، كما لو حلف لا يضع قدمه في هذه الدّار، فإنّ الحقيقة فيه ممكنة، لكنّها مهجورة، والمراد من ذلك في العرف الدّخول، فلو وضع قدمه فيها بدون دخولٍ لا يحنث، ولو دخلها راكباً حنث. وإن تعذّرت الحقيقة والمجاز أهمل الكلام لعدم الإمكان. فإذا تعذّر إعمال الكلام، بأن كان لا يمكن حمله على معنًى حقيقيٍّ له ممكنٍ، لتعذّر الحقيقة بوجهٍ من الوجوه المتقدّمة، أو لتزاحم المتنافيين من الحقائق تحتها، ولا مرجّح، ولا على معنًى مجازيٍّ مستعملٍ، أو كان يكذّبه الظّاهر من حسٍّ، أو ما في حكمه من نحو العادة، فإنّه يهمل حينئذٍ، أي يلغى ولا يعمل به. أمّا تزاحم المتنافيين: فكما لو كفل ولم يعلم أنّها كفالة نفسٍ أو مالٍ، فإنّها لا تصحّ. وأمّا تعذّر الحقيقة، وعدم إمكان الحمل على المعنى المجازيّ لكونه غير مستعملٍ، فكما لو قال لمعروف النّسب: هذا ابني، فإنّه كما لا يصحّ إرادة الحقيقة منه، لثبوت نسبه من الغير، لا يصحّ أيضاً إرادة المجاز، وهو الإيصاء له بإحلاله محلّ الابن في أخذ مثل نصيبه من التّركة، لأنّ ذلك المجاز غير مستعملٍ، والحقيقة إذا لم تكن مستعملةً لا يصار إليها، فالمجاز أولى. وكذا لو قال لامرأته المعروفة لأبيها: هذه بنتي، لم تحرم بذلك أبداً. وأمّا تكذيب الحسّ: فكدعوى قتل المورث وهو حيّ، أو قطع العضو وهو قائم، وكدعوى الدّخول بالزّوجة وهو مجبوب. وأمّا ما في حكم الحسّ: فكدعوى البلوغ ممّن لا يحتمله سنّه أو جسمه، وكدعوى صرف المتولّي أو الوصيّ على الوقف أو الصّغير مبلغاً لا يحتمله الظّاهر، فإنّ كلّ ذلك يلغى، ولا يعتبر ولا يعمل به، وإن أقيمت عليه بيّنة. ويرجع فيما ذكر إلى مصطلحات (ترجيحٍ، ووكالةٍ، وكفالةٍ، ووصايةٍ، ووصيّةٍ، ووقفٍ). انظر: مقادير. انظر: مقادير. انظر: صفةً.
|